فضل عيد الغدير
اعلم ان كل عيد جديد أطلق الله جل جلاله فيه شيئا من الجود لعبد سعيد ، فانما يكون اطلاقه جل جلاله لذلك الإحسان لمن ظفر بمعرفة الله جل جلاله ومعرفة رسوله صلوات الله عليه وإمام الزمان ، وكان صحيح الإيمان ، فان النقل عن صاحب الشريعة النبوية ورد متظاهرا انه من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية .
وهذا عيد يوم الغدير الثامن عشر من ذي الحجة ، فيه كشف الله ورسوله عن واضح الحجة ، ونص بها على من اختاره للإمامة والحجة ، وكل عبد علاقة عليه كالعبد الذي يخدم بين يديه ويتقرب إليه . واعلم ان المنة بكشفه والمحنة بلطفه ، تكاد ان تزيد على الامتحان بصاحب النبوة العظيم الشأن ، لأن الرسول المبعوث صلوات الله وسلامه عليه ، بعث في اول امره بمكة إلى قوم يعبدون أحجارا وأخشابا لا تدفع ولا تنفع ولا تسمع خطابا ولا ترد جوابا . قد شهدت عقول اهل الوجود بجهل من اتخذ آلهة من دون الله المعبود ، ولم يكن بين أهل مكة وبين رسول الله صلى الله عليه وآله عداوة قبل رسالته ، ولا بينهم وبينه قتل ولا دماء قد سفكها ، تمنع طبعا وعقلا من قبول نبوته .
وأما مولانا أمير المؤمنين عليه أفضل السلام ، الذي نص الله جل جلاله عليه على لسان رسوله عليه أعظم الصلاة والسلام في يوم الغدير ، فان أهل الإسلام كانوا قد اتسعت عليهم شبهات العقول والأحلام وتأويل ما يقدرون فيه على التأويل ، وكان مولانا على عليه السلام قد عادى كثيرا في الله جل جلاله وفى طاعة الرسول الجليل ، فسفك دماء عظيمة من أسلافهم وعظمائهم وأمثالهم ، وسار مع رسول الله عليه السلام سيرة واحدة في معاداة من عاداه من أول امره إلى آخره ، من غير مراعات لحفظ قلوب من كان عاداه من رجالهم ، وظهرت له من العنايات والكرامات ما اقتضت حسد أهل المقامات .
فحصل لإمامته من المعاداة والحسد له على الحياة ونفور الطبايع ، بأنه ما يسير الا سيرة واحدة من غير مداهات زيادة على ما كان عند بعثة النبي عليه أفضل الصلوات ، بلغ الأمر إلى ما قدمناه قبل هذا الفصل من العداوات .
ولقد حكى أبو هلال العسكري في كتاب الأوائل ، وهو من المخالفين المعاندين ، كلاما جليلا في سبب عداوة الناس لمولانا على بن أبى طالب عليه السلام فقال في مدح أبو الهيثم بن التيهان انه أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وآله في ابتداء أمر نبوته ، ثم قال بإسناده إلى أبو الهيثم بن التيهان انه قام خطيبا بين يدي أمير المؤمنين على بن أبى طالب فقال : ان حسد قريش إياك على وجهين : اما خيارهم فتمنوا ان يكونوا مثلك منافسة (1) في الملأ وارتفاع الدرجة ، واما شرارهم فحسدوا حسدا أثقل القلوب وأحبط الأعمال ، وذلك انهم رأوا عليك نعمة قدمها إليك الحظ وأخرهم عنها الحرمان ، فلم يرضوا ان يلحقوا حتى طلبوا ان يسبقوك ، فبعدت والله عليهم الغاية واسقط المضمار .
فلما تقدمهم بالسبق وعجزوا عن اللحاق بلغوا منك ما رأيت ، وكنت والله أحق قريش بشكر قريش ، نصرت نبيهم حيا وقضيت عنه الحقوق ميتا ، والله ما بغيهم الا على أنفسهم ولا نكثوا الا بيعة الله ، يد الله فوق أيديهم فيها ، ونحن معاشر الأنصار أيدينا وألسنتنا معك ، فأيدينا على من شهد وألسنتنا على من غاب .
أقول : فهذا أبو الهيثم بن التيهان من اشرف الأنصار ، وقد حضر أول أمر النبوة وما جرت الحال عليه ، وقوله حجة على قريش وغيرهم فيما أشار رحمه الله .
فليكن تعظيم عيد أهل الشرايع على قد ما فيه من المنافع ، وعلى قدر ما سلم الله جل جلاله الظافر بما فيه من الحوائل والقواطع ، فان كل نعمة لله على عباده ، على قدر ما سلمهم فيها من أخطار غضبه وابعاده ، وعلى قدر مفارقتهم لأهل عناده وموافقتهم لمراده .