فضل عيد الغدير عند أهل العقول من طريق المنقول
فضل عيد الغدير عند أهل العقول من طريق المنقول
ابن طاووس
فمن ذلك ما اخبرني به الشيخ العالم حسين بن احمد السوراوى والشيخ الأوحد الملقب عماد الدين اسعد بن عبد القاهر الأصفهاني ، بإسنادهما المقدم ذكره عن الشيخ السعيد المجيد أبى جعفر محمد بن محمد الحسن الطوسي قدس الله روحه ، قال : أخبرنا جماعة ، عن أبى محمد هارون بن موسى التلعكبرى ، قال : حدثنا أبو الحسن على بن احمد الخراساني الحاجب في شهر رمضان سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة ، قال : حدثنا سعيد بن هارون ابو عمرو المروزى - وقد زاد على الثمانين سنة - قال : حدثنا الفياض بن محمد بن عمر الطوسي بطوس سنة تسع وخمسين ومأتين ، وقد بلغ التسعين ، انه شهد ابا الحسن على بن موسى الرضا عليهم السلام في يوم الغدير وبحضرته جماعة من خاصته قد احتسبهم للإفطار ، وقد قدم إلى منازلهم الطعام والبر والصلات والكسوة حتى الخواتيم والنعال ، وقد غير أحوالهم وأحوال حاشيته وجددت له الآلة غير الا له التي جرى الرسم بابتذالها قبل يومه ، وهو يذكر فضل اليوم وقدمه ، فكان من قوله عليه السلام : حدثني الهادي أبى ، قال : حدثني جدي الصادق ، قال : حدثني الباقر ، قال : حدثني سيد العابدين ، قال : حدثني أبى الحسين ، قال :
اتفق في بعض سنى أمير المؤمنين عليه السلام الجمعة والغدير ، فصعد المنبر على خمس ساعات من نهار ذلك اليوم ، فحمد الله حمدا لم يسمع بمثله ، وأثنى عليه بما لا يتوجه إلى غيره ، فكان ما حفظ من ذلك :
الحمد لله الذي جعل الحمد من غير حاجة منه إلى حامديه ، وطريقا من طرق الاعتراف بلا هويته وصمدانيته وفردانيته ، وسببا إلى المزيد من رحمته ، ومحجة للطالب من فضله ، وكمن في ابطان حقيقة الاعتراف له بانه المنعم على كل حمد باللفظ وان عظم . واشهد ان لا اله الا الله ، وحده لا شريك له ، شهادة نزعت عن اخلاص الطوى ونطق اللسان بها عبارة عن صدق خفي ، انه الخالق الباري المصور له الأسماء الحسنى ، ليس كمثله شئ ، إذ كان الشئ من مشيته وكان لا يشبهه مكونه .
واشهد ان محمدا عبده ورسوله ، استخلصه في القدم على سائر الأمم ، على علم منه ، بانه انفرد عن التشاكل والتماثل من ابناء الجنس ، وانتجبه آمرا وناهيا عنه ، اقامه في سائر عالمه في الاداء مقامه ، إذ كان لا تدركه الإبصار ولا تحويه خواطر الأفكار ، ولا تمثله غوامض الظنون في الاسرار .
لا اله الا هو الملك الجبار ، قرن الاعتراف بنبوته بالاعتراف بلا هويته ، واختصه من تكرمته بما لم يلحقه فيه احد من بريته ، فهو أهل ذلك بخاصته وخلته ، إذ لا يختص من يشوبه التغير ، ولايخالل من يلحقه التظنين ، وأمر بالصلاة عليه ، مزيدا في تكرمته ، وطريقا للداعى إلى اجابته ، فصلى الله عليه وكرم وشرف وعظم ، مزيدا لا تلحقه التفنية ولا ينقطع على التأكيد . وان الله تعالى اختص لنفسه بعد نبيه
صلى الله عليه وآله بريته خاصة ، علاهم بتعليته ، وسمى بهم الى رتبته بهم إلى رتبته ، وجعلهم الدعاة بالحق إليه ، والأداء بالإرشاد عليه ، لقرن قرن ، وزمن وزمن ، انشأهم في القدم قبل كل مذر ومبر ، وانورا انطقها بتحميده وألهمها على شكره وتمجيده . وجعلها الحجج على كل معترف له بملكوت الربوبيته ، وسلطان العبودية ، واستنطق بها الخرسات بأنواع اللغات ، بخوعا (1) له بأنه فاطر الارضين والسماوات ، واستشهدهم خلقه وولاهم ما شاء من أمره .
جعلهم تراجم مشيته وألسن ارادته ، عبيدا لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ، ولا يشفعون الالمن ارتضى ، وهم من خشيته مشفقون ، يحكمون باحكامه ويستنون بسنته ، ويعتمدون حدوده ، ويؤدون فرضه .
ولم يدع الخلق في بهم صما ولا في عمى بكما ، بل جعل لهم عقولا مازجت شواهدهم ، وتفرقت في هياكلهم ، حققها في نفوسهم واستعد لها حواسهم ، فقرر بها على أسماع ونواظر وأفكار وخواطر ، الزمهم بها حجته واراهم بها محجته وانطقهم عما شهدته بألسن ذرية بما قام فيها من قدرته وحكمته ، وبين عندهم بها ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ) (2)، وان الله لسميع عليم ، بصير شاهد خبير .
وان الله تعالى جمع لكم معشر المؤمنين في هذا اليوم عيدين عظيمين كبيرين ، لا يقوم احدهما الا بصاحبه ، ليكمل لكم عندكم ، جميل صنعه ، ويقفكم على طريق رشده ، ويقفوا بكم آثار المستضيئين بنور هدايته ، ويسلك بكم منهاج قصده ، ويوفر عليكم هنيى رفده .
فجعل الجمعة مجمعا ندب إليه (3) لتطهير ما كان قبله ، وغسل ما أوقعته مكاسب السوء من مثله الى مثله ، وذكرى للمؤمنين وتبيان خشية المتقين ، ووهب لأهل طاعته في الأيام قبله وجعله لا يتم الا بالايتمار لما امر به ، والانتهاء عما نهى عنه ، والبخوع بطاعته فيما حث عليه وندب إليه ، ولا يقبل توحيده الا بالاعتراف لنبيه صلى الله عليه وآله بنبوته ، ولا يقبل دينا الا بولاية من أمر بولايته ، ولا ينتظم أسباب طاعته الا بالتمسك بعصمه وعصم أهل ولايته .
فانزل على نبيه صلى الله عليه وآله في يوم الدوح مابين فيه عن ارادته في خلصائه وذوى اجتبائه ، وأمره بالبلاغ وترك الحفل بأهل الزيغ والنفاق ، وضمن له عصمته منهم وكشف عن خبايا أهل الريب وضمائر أهل الارتداد مارمز فيه . فعقله المؤمن والمنافق فاذعن مذعن وثبت على الحق ثابت ، وازدادت جهالة المنافق ، وحمية المارق (1) ، ووقع العض على النواخذ (2) والعمر على السواعد ، ونطق ناطق ، ونعق ناعق ، ونشق ناشق ، واستمر على مارقته مارق ، ووقع الاذعان من طائفة باللسان دون حقائق الإيمان ، ومن طائفة باللسان وصدق الإيمان .
وأكمل الله دينه ، واقر عين نبيه والمؤمنين والمتابعين ، وكان ما قد شهده بعضكم وبلغ بعضكم ، وتمت كلمة الله الحسنى على الصابرين ، ودمر (3) الله ما صنع فرعون وهامان وقارون وجنوده وما كانوا يعرشون (4) ، وبقيت حثالة (5) من الضلال ، لا يألون الناس خبالا (6) .
فيقصدهم الله في ديارهم ، ويمحوا آثارهم ، ويبيد معالمهم ، ويعقبهم عن قرب الحسرات ، ويلحقهم عن بسط أكفهم ، ومد أعناقهم ، ومكنهم من دين الله حتى بدلوه ومن حكمه حتى غيروه ، وسيأتي نصر الله على عدوه لحينه ، والله لطيف خبير وفى دون ما سمعتم كفاية وبلاغ .
فتأملوا رحمكم الله ما ندبكم الله اليكم ، وحثكم عليه ، واقصدوا شرعه ، واسلكوا نخجه ، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله . هذا يوم عظيم الشأن فيه وقع الفرج ، ورفعت الدرج ، ووضحت الحجج ، وهو يوم الايضاح والافصاح عن المقام الصراح ، ويوم كمال الدين ، ويوم العهد المعهود ، ويوم الشاهد والمشهود ، ويوم تبيان العقود عن النفاق والجحود ، ويوم البيان عن حقائق الإيمان ، ويوم دحر (1) الشيطان ، ويوم البرهان . هذا يوم الفصل الذي كنتم به توعدون ، هذا يوم الملأ الأعلى الذي انتم عنه معرضون ، هذا يوم الإرشاد ، ويوم محنة العباد ويوم الدليل على الرواد ، هذا يوم ابداء خفايا الصدور ، ومضمرات الأمور ، هذا يوم النصوص على أهل المخصوص .
هذا يوم شيث ، هذا يوم ادريس ، هذا يوم اظهار يوشع ، هذا يوم شمعون ، هذا يوم الأمن المأمون ، هذا يوم اظهار المصون من المكنون ، هذا يوم ابداء السرائر .
فلم يزل عليه السلام يقول : هذا يوم هذا يوم ، فراقبوا الله واتقوه ، واسمعوا له وأطيعوه ، واحذروا المكر ولا تخادعوه ، وفتشوا ضمائركم ، ولاتواربوه ، وتقربوا إلى الله بتوحيده ، وطاعة من أمركم ان تطيعوه ، ولا تمسكوا بعصم الكوافر .
ولا ينجح (2) بكم الغي فتضلوا عن سبيل الرشاد ، باتباع أولئك الذين ضلوا وأضلوا ، قال الله تعالى عز من قائل في طائفة ذكرهم بالذم في كتابه : ( إنا اطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربا اتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا ) (3) ، وقال الله تعالى : ( وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للدين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل انتم مغنون عنا من عذاب الله من شئ ، قالوا لو هدينا الله لهدينا ) (4) ، أفتدرون استكبار ما هو ترك الطاعة لمن أمر الله بطاعته والترفع عمن ندبوا إلى متابعته ، والقرآن ينطق من هذا عن كثير ، ان تدبره متدبر زجره ووعظه .
واعلموا أيها المؤمنون ان الله عز وجل قال : ( ان الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ) (5) ، أتدرون ما سبيل الله ومن سبيله ومن صراط الله ومن طريقه .
أنا صراط الذي من لا يسلكه بطاعة الله فيه هوى به (1) إلى النار ، أنا سبيله الذي نصبي للإتباع بعد نبيه صلى الله عليه وآله ، أنا قسيم النار ، أنا حجة الله على الفجار ، أنا نور الأنوار .
فانتبهوا من رقدة الغفلة ، وبادروا بالعمل قبل حلول الأجل ، وسابقوا إلى مغفرة من ربكم قبل ان يضرب بالسور بباطن الرحمة وظاهر العذاب ، فتنادون فلا يسمع نداؤكم ، وتضجون فلا يحفل (2) بضجبجكم ، وأقبل ان تستغيثوا فلا تغاثوا ، سارعوا إلى الطاعات قبل فوات الأوقات ، فكان قد جاء هادم اللذات فلا مناص نجاة ولا محيص تخليص .
عودوا رحمكم الله بعد انقضاء مجمعكم بالتوسعة على عيالكم ، والبر بإخوانكم ، والشكر لله عز وجل على ما منحكم ، واجمعوا يجمع الله شملكم ، وتباروا يصل الله ألفتكم ، وتهانوا نعمة الله كما هنأكم بالصواب فيه على أضعاف الأعياد قبله وبعده الا في مثله ، والبر فيه يثمر المال ويزيد في العمر ، والتعاطف فيه يقتضى رحمة الله وعطفه ، وهبوا لإخوانكم وعيالكم عن فضله بالجهد من جودكم ، وبما تناله القدرة من استطاعتكم ، وأظهروا البشرى فيما بينكم والسرور في ملاقاتكم .
واحمدوا الله على ما منحكم وعودوا بالمزيد على أهل التأميل لكم ، وساووا بكم ضعفاء كم ومن ملككم وما تناله القدرة من استطاعتكم وعلى حسب امكانكم ، فالدرهم فيه بمأتى ألف درهم والمزيد من الله عزوجل .
وصوم هذا يوم مما ندب الله إليه ، وجعل العظيم كفالة عنه ، حتى لو تعبد له عبد من العبيد في التشبيه من ابتداء الدنيا إلى تقضيها (3) صائما نهارها قائما ليلها ، إذا خلص المخلص في صومه لقصرت أيام الدنيا عن كفايته ، ومن أضف فيه أخاه مبتدئا وبره راغبا ، فله كأجر من صام هذا اليوم وقام ليلة ، ومن فطر مؤمنا في ليلة فكأنما فطر فئاما (1) فئاما ، يعدها بيده عشرة . فنهض ناهض فقال : يا أمير المؤمنين وما الفئام ؟ قال : مأتى ألف نبي وصديق وشهيد ، فكيف بمن يكفل عددا من المؤمنين والمؤمنات ، فانا ضمينه على الله تعالى الأمان من الكفر والفقر .
وان مات في ليلته أو بعده إلى مثله ، من غير ارتكاب كبيرة ، فأجره على الله ، ومن استدان لإخوانه وأعانهم ، فأنا الضامن على الله ان أبقاه وان قبضه حمله عنه ، وإذا تلاقيتم فتصافحوا بألسنتكم وتهانوا بالنعمة في هذا اليوم ، وليبلغ الحاضر الغائب والشاهد البائن ، وليعد الغنى على الفقير والقوى على الضعيف ، أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك .
ثم اخذ صلوات الله عليه في خطبته الجمعة ، وجعل صلاته جمعة صلاة عيد ، وانصرف بولده وشيعته الى منزل أبى محمد الحسن بن على عليهما السلام ، بما اعد له من طعامه ، وانصرف غنيهم وفقيرهمه برفده إلى عياله (2) .